الطاعون والأوبئة في التاريخ الإسلامي وكيف تعامل المسلمون معها



على مر التاريخ تعاقبت الأزمات والابتلاءات والمحن التي أصابت البشرية وشكلَّت الأوبئة تهديدًا كبيرًا للحضارات الإسلامية في العصور المختلفة، بل حصدت أرواح الناس حصدًا، تاركةً وراءها ما يُمكنُ وصفُه بكوارث ديموغرافية كبرى تركت بدورها آثارًا سلبية بالغة القسوة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والعمراني، ومن ثم السياسي في نهاية المطاف، ولَعل أكثرها فتكاً كان مرض “الطاعون” الذي انتشر أكثر من مرة في مصر والشام والمغرب والعراق والأندلس وقتل ألوفاً من سكانها حتى أنه لا يكاد يخلو قرن من القرون من هذه الأوبئة ومن أثارها المدمرة لأوجه الحياة.
  •  الطواعين والأوبئة في التاريخ الإسلامي:

نظراً لما تركته الأوبئة من آثار في التاريخ الإسلامي لانعكاسها على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية للمجتمع الإسلامي والإنسانية ككل، كان لا بد من تناولها والاهتمام بدراستها.
وقد احتل الطاعون مكانة مرموقة في كتب التراث الإسلامي، حيث حفلت بالحديث عنه مؤلفات الحديث والفقه والفلسفة، فضلًا عن مجال الاختصاص وهو الطب، ولو تصفحنا كتب السنة لوجدنا البخاري ومسلم والترمذي وغيرهما قد أفردوا في كتبهم أبوابًا تضم ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في شأن الطاعون ومنها ما جاء في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"، ومنها ما جاء في البخاري أيضًا عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: "سَأَلْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فأخْبَرَنِي أنَّه عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ، وأنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، ليسَ مِن أحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أنَّه لا يُصِيبُهُ إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ شَهِيدٍ".
ضربت العديد من الأوبئة و الطواعين بلاد الأمة الإسلامية كان أشهرها طاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب عام 17و 18هـ / 638 و639م، وطاعون الكوفة في عام 49هـ / 669م، وطاعون البصرة عام 64هـ / 683م، وطاعون ابن الزبير في عام 69هـ/ 688م، وطاعون الفتيات في عام 87هـ / 705م، وغير ذلك من الأوبئة والطواعين التي لا يُحصى عددها.

أما طاعون عمواس فحدث في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد سمِّي بطاعون عِمَواس نسبة إِلى بلدةٍ صغيرة، يقال لها: عِمَواس، وهي: بين القدس، والرَّملة؛ لأنَّها كانت أول ما نجم الدَّاء بها، وقد كان طاعون عمواس عظيم الخطر على المسلمين وأفنى منهم أكثر من عشرين ألفاً ومن بينهم خيرة أمرائهم، ثمَّ انتشر في الشَّام منها، فنسب إِليها، وكان حصول الطَّاعون في ذلك الوقت بعد المعارك الطَّاحنة بين المسلمين والروم، وكثرة القتلى، وتعفُّن الجو، وفساده بتلك الجثث أمراً طبيعياً، قدَّره الله لحكمةٍ أرادها حيث تمكن اليأس من نفوس الرُّوم فأقعدهم عن مهاجمة المسلمين. وكانت شدَّته بالشَّام، فهلك به خلقٌ كثيرٌ، منهم: أبو عبيدة بن الجرّاح، وهو أمير النَّاس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وقيل: استشهد باليرموك، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وأشراف النَّاس  
حدث الطاعون الجارف في البصرة سنة 69هـ، في زمن عبدالله بن الزبير (رضي الله عنه)، وسمي بالجارف لكثرة من مات فيه، فقد اجترف الموت فيه الناس اجترافاً كالسيل، واستمر ثلاثة أيام فقط
وفي عام 87هـ وقع طاعون في العراق وبلاد الشام، سمي بطاعون الفتيات لأنه وقع بالنساء والعذارى أولاً، فوقع بالنساء قبل الرجال، بينما سماه البعض بطاعون الأشراف لكثرة ما توفي فيه من أشراف القوم وأكابرهم وكان آخر ما حدث من الطواعين في العصر الأموي هو طاعون مسلم بن قتيبة في سنة 131هـ، والذي سمي باسم أول من مات به، وقد وقع هذا الطاعون في البصرة واستمر لثلاثة أشهر، واشتد في رمضان حيث كان يحصى في بعض الأيام ألف جنازة أو يزيد (فاضل،2011، 106).
وتحدث ابن كثير أنه عندما اجتاح المغول بغداد ودمروها في سنة 656هـ/ 1258م: “تعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد،… ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون”.
وفي العصر المملوكي، فقد تعرضت بلاد الشام لطاعون اجتاح معظم مناطقها في عام 748هـ، وقد أطلق عليه اسم “الطاعون الأعظم” لسعة انتشاره وشدة فتكه. وأفنى هذا الطاعون سكان مدن حلب ودمشق والقدس والسواحل. كما انتشر في حلب داء اسمه “الفناء العظيم” في عام 795ه، وقد حصد بحصيلته النهائية 150 ألف شخص من حلب وقراها (الطراونة،2010، 47-48).
  • المغرب العربي وتاريخه مع الأوبئة:

مر على تاريخ المغرب العربي الكثير من الأوبئة والمجاعات والجفاف في عصر المرابطين والموحدين والمرنيين وحتى الفترة الحديث، ولعل من أهمها طاعون عام 571هـ، الذي انتشر في بلاد المغرب والأندلس ويعتبر أهم طاعون عرفه عصر الموحدين، فقد كان له نتائج كارثية ولم يسلم منه أحد حتى أن أربعة أمراء من إخوة الخليفة يوسف بن يعقوب ماتوا فيه، بينما كان يموت بسببه ما بين 100 و190 من عامة الناس في اليوم الواحد.
وحدث في المغرب طاعون عام 1798م، والذي انتقل بالعدوى من التجار الذين حملوه معهم من الاسكندرية إلى تونس فالجزائر فالمغرب، وقد تفشى الطاعون في فاس ومكناس ووصل إلى الرباط، فكان يخلف 130 ضحية في اليوم (البزاز،1992، ص92).
كما أورد ابن عذاري المراكشي في سياق التأريخ لحوادث الأوبئة في الأندلس في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي أنه عام 498هـ/ 1105م تناهى القحط في بلاد الأندلس والعدوة حتى أيقن الناس بالهلاك”، ولا شك أن ما أعقب كارثة القحط من مضاعفات سكانية واقتصادية بالمغرب والأندلس، كان بمثابة الشرارة المهددة لسلسة من الكوارث الطبيعية المتلاحقة. وكلما حدث اضطراب مناخي كان يدل في ذهنية إنسان تلك المرحلة على ظروف معيشية ونفسية وصحية أصعب، وعلى العموم، فتاريخ المسلمين في مختلف مراحله، وجغرافيا العالم الإسلامي في شتى بقاعها، شهدت مثل هذه النكبات والأوبئة الكثيرة
وأدى الوباء إلى هلاك الكثير من الأتقياء ورجال الدين والعلماء الصالحين، فشكل ذلك فراغاً في المرجعية الدينية، حتى أن الناس بدأوا يلجؤون في تلك الفترة إلى المشعوذين والمنجمين حتى يسدوا الفراغ الروحي لديهم
  • كيف تعامل المسلمون مع الأوبئة في تاريخهم؟

في موجة طاعون عمواس، ذُكر أن المسلمين تحركوا في إطار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: «إِذا سمعتم به بأرضٍ؛ فلا تقدموا عليه، وإِذا وقع بأرضٍ، وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فراراً منه »، وهذا الحديث النبوي فيه إشارة واضحة إلى ما يطبق اليوم علمياً وعملياً من الحجر الصحي بهدف مواجهة الأوبئة المنتشرة، فرسول الله لم يكتف بأن يأمرهم بعدم القدوم إلى الأرض الموبوءة، بل أتبعها بأن أمر من كان في أرض أصابها الطاعون أن لا يخرج منها، وذلك لمنع انتشار العدوى فينتقل الوباء إلى مناطق أخرى، وبذلك فإن هذا الحديث لفتة إعجازية تضاف إلى سجل الطب النبوي.
وقد رجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بناء على هذا الحديث إلى المدينة ولم يدخل الشام بعد أن كان قد قصدها ولم يكن ذلك هرباً من الموت المقدر أن عمر أجاب أبا عبيدة بن الجراح عندما سأله عن سبب رجوعه إلى المدينة، قائلاً: أفراراً من قدر الله؟، فأجاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو غيرك يقول هذا، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله… وعليه فقد أباح بعض العلماء الخروج على ألا يكون الخروج فراراً من قدر الله، والاعتقاد بأنَّ فراره هو الَّذي سلَّمه من الموت، أمَّا مَنْ خرج لحاجةٍ متمحِّضَةٍ، فهو جائزٌ، ومن خرج للتَّداوي فهو جائزٌ، فإِنَّ تَرْكَ الأرض الوبئة، والرَّحيل إِلى الأرض النَّزهة مندوبٌ إِليه، ومطلوبٌ.
وقد طلب الفاروق بعد ذلك من أبي عبيدة أن يرتحل بالمسلمين من الأرض الغمقة الَّتي تكثر فيها المياه، والمستنقعات إِلى أرضٍ نزهةٍ عالية، ففعل أبو عبيدة. وفي ذلك درس في الأخذ بأسباب الوقاية من المرض والوباء والابتعاد عن مصادره وأماكن استفحاله.
وقد طور المسلمون طرق مواجهتهم للطاعون والأوبئة فيما بعد، ففي العهد المملوكي ولمواجهة الأوبئة المنتشرة، والكثيرة التي أصابت أهالي الشام ومصر، عمد بعض السلاطين والميسورين من الناس بقصد الثواب والتقرب إلى الله، إلى بناء “البيمارستانات” في مدن الشام جميعها، لمداواة ورعاية المطعونين والمصابين بالأوبئة كالحمى وغيرها. ولأن الناس كانت تموت بأعداد كبيرة في فترة الوباء فإن الجثث كانت تترك ثلاثة أيام أحياناً على الأرض ولا يوجد من يواريها خوفاً من العدوى، ولذلك فقد عمد بعض الحكام والأثرياء استجابة لتعاليم الدين الإسلامي والتي تحض على دفن الميت بأسرع وقت ممكن حفاظاً على حرمته وكرامته، إلى إنشاء ما سمي بحوانيت أو مغاسل الموتى، والتي تهتم بتغسيل وتكفين الفقراء من موتى المسلمين ثم يتم دفنهم وفق الشريعة الإسلامية
ولم ينس الناس أهمية التقرب من الله والدعاء إليه والرجاء منه في تلك الأوقات العصيبة، فأخذ أهل الصلاح والعباد من الناس يتوبون إلى الله ويستغفرون ويزيدون من العبادات، ومن أجل التقرب إليه فقد شرع بعضهم في إغلاق حوانيت الخمر، وابتعد الناس عن ارتكاب الفواحش والمنكرات (الطراونة،2010، 57).
  • تاريخ المغرب مع تطبيق الحجر الصحي:

وللمسلمين تجارب في تطبيق الحجر الصحي، فقبيل انتشار طاعون 1798م في المغرب، استطاع المغاربة تطبيق حجر صحي واتخاذ إجراءات للوقاية من الوباء الذي قدم من الشرق، فهم وإن لم يستطيعوا أن يتفادوه ولكنهم استطاعوا تأخير قدومه عدة سنوات، فهذا الطاعون أول ما بدأ في الإسكندرية في عام 1783م. والذي ساهم في تأخير قدوم الوباء مجموعة التدابير التي اتخذها سيدي محمد بن عبدالله لوقاية مملكته من الوباء المتفشي في الجزائر وذلك بأن أقام نطاقاً عسكرياً على الحدود الشرقية للمغرب، وبدأت الهيئة القنصلية المقيمة في طنجة في عام 1792م باتخاذ اجراءات صحية وقائية على الواجهة البحرية، بعد أن استطاعت انتزاع موافقة مولاي سليمان على فرض حجر صحي ضد الجزائر التي كان الوباء فيها قد تفشى آنذاك
  • طرق الوقاية وكيف نتعامل مع الاوبئة وفق الرؤية القرآنية وسنة الأخذ بالأسباب؟

استنادا إلى قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) “سورة البقرة:195″. فإننا كمؤمنون مطالبون بالرضا والتسليم بقضاء الله وقدره خيره وشره وبالعمل على الوقاية ودرء أسباب البلاء وذلك والتوكل على الله، وباستقراء تجارب المسلمين وسيرتهم مع البلاء، فإننا نخلص إلى عدة نتائج:
  • وجوب الأخذ بأسباب الوقاية والعلاج، مع القناعة والاعتقاد بأننا نفر من أقدار الله إلى أقدار الله.
  • الاعتقاد بأن لنا في هذا المرض والبلاء أجر إن نحن صبرنا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ “ ) أخرجه البخاري (، وإننا نحسب أن من مات بوباء الكورونا مثل من مات بالطاعون إذا كان المبتلى ذا نية على الشهادة وصبر على البلاء وشكر لله على كل حال.
  • الالتزام على النظافة والتعقيم وجوب تجنب أماكن العدوى والالتزام بقواعد الحجر الصحي التي تحددها الحكومات والقوانين، فبالنسبة لمكان الوباء فإنَّ في البقاء فيه رخصةٌ، والخروج منه رخصةٌ، فمن كان في الوباء، وأصيب، فلا فائدة من خروجه، وهو بخروجه ينقل المرض إِلى النَّاس الأصحَّاء، ومن لم يُصَبْ فإِنَّه يرخَّص له في الخروج من باب التَّداوي على ألا يخرج النَّاس جميعاً، فلا بدَّ أن يبقى من يعتني بالمرضى.

أخيراً: يجدر الإشارة إلى أهمية التقيد بإرشادات وتوجيه الجهات الرسمية والهيئات الطبية لأنها الأكثر معرفة ودراية بتفاصيل المرض وآثاره وذلك في كل بلد، والتكافل مهم بين بني الإنسان للتغلب على هذا الوباء الخطير.

المصادر:


تعليقات